فصل: فصل في أركان الكفر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أركان الكفر:

قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أركَانَ الكفر أربعة: الكبر والحسد والْغَضَب والشهوة فالكبر يمنعه الانقياد والحسد يمنعه قبول النَّصِيحَة وبذلها والْغَضَب يمنعه العدل والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة فإن انهدم ركن الكبر سهل عَلَيْهِ الانقياد وإِذَا انهدم ركن الحسد سهل عَلَيْهِ قبول النصح وبذله وإِذَا انهدم ركن الْغَضَب سهل عَلَيْهِ العدل والتواضع وإِذَا انهدم ركن الشهوة سهل عَلَيْهِ الصبر والعفاف والعبادة.
وزَوَال الجبال عن أماكنها أيسر من زَوَال هذه الأربعة عمن بُلِيَ بِهَا ولا سيما إِذَا صَارَت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة فإنه لا يستقيم لَهُ معها عمل البتة. ولا تزكو نَفْسهُ مَعَ قيامها بِهَا، وكُلَّما اجتهد فِي الْعَمَل أفسدته عَلَيْهِ هذه الأربعة وكل الآفات متولدة منها وإِذَا استحكمت فِي الْقَلْب أرته الْبَاطِل فِي صورة الحق والحق فِي صورة الْبَاطِل والمعروف فِي صورة الْمُنْكَر والْمُنْكَر فِي صورة المعروف وقربت منه الدُّنْيَا وبعدت منه الآخرة.
وإِذَا تأملت كفر الأمم رأيته ناشيئاً منها وعَلَيْهَا يقع الْعَذَاب وتَكُون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها عَلَى نَفْسه فتح عَلَيْهِ أبواب الشرور كُلّهَا عاجلاً وآجلاً، ومن أغلقها عن نَفْسه أغلق عنهُ أبواب الشرور، فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المُسْلِمِيْنَ والتواضع لله ولخلقه.
ومنشأ هذه الأربعة: من جهله بربه وجهله بنفسه فإنه لَوْ عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال. وعرف نَفْسهُ بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أَحَداً عَلَى ما آتاه الله، فإن الحسد فِي الحَقِيقَة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله عَلَى عبده، وقَدْ أحبهَا الله ويحب زوالها عنهُ، والله يكره ذَلِكَ، فهو مضاد لله فِي قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذَلِكَ كَانَ إبلَيْس عدوه حَقِيقَة، لأن ذنبه كَانَ عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرِّضَا به وعنه، والإنابة إليه وقلع الْغَضَب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، وينتقم لها فإن ذَلِكَ إيثار لها بالرِّضَا والْغَضَب عَلَى خالقها وفاطرها وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لَهُ سُبْحَانَهُ وترضي لَهُ فكُلَّما دخلها شَيْء من الْغَضَب والرِّضَا لَهُ خرج منها مقابله من الْغَضَب والرِّضَا لها وَكَذَا بالعكس.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أساس كُلّ خَيْر أن تعلَمَ أن ما شَاءَ الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عَلَيْهَا، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنكَ، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك فِي فعل الحسنات وترك السيئات إلي نفسك وقَدْ أجمَعَ العارفون عَلَى أن كُلّ خَيْر أصله بتوفيق الله للعبد وكل شر أصله خذلانه لعبده وأجمعوا عَلَى أن التَّوْفِيق أن لا يكلك الله إلي نفسك وأن الخذلان هُوَ أن يخلي بينك وبين نفسك فإِذَا كَانَ كُلّ خَيْر فأصله التَّوْفِيق وَهُوَ بيد الله لا بيد الْعَبْد فمفتاحه الدُّعَاء والرغبة والرهبة إليه فمتي أعطي الْعَبْد هَذَا المفتاح فقَدْ أراد أن يفتح لَهُ ومتي أضله عن المفتاح بقي باب الْخَيْر مرتجاً دونه، وَقَالَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَر بن الْخَطَّاب إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدُّعَاء فإِذَا أُلهِمتُ الدُّعَاء فإن الإجابة معه وعَلَى قدر نية الْعَبْد وهمته ومراده ورغبته فِي ذَلِكَ يكون توفيقه سُبْحَانَهُ وإعانته فالمعونة من الله تنزل عَلَى العباد عَلَى قدر همهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عَلَيْهمْ عَلَى حسب ذَلِكَ فالله سُبْحَانَهُ أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين يضع التَّوْفِيق فِي مواضعه اللائقة به والخذلان فِي مواضعه اللائقة به، وَهُوَ العليم الحكيم وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدُّعَاء ولا ظفر بمشئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدُّعَاء وملاك ذَلِكَ الصبر فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإِذَا قطع الرأس فلا بقاء للجسد.
عَلَيْكَ بِتَقْوى اللهِ يِا نَفْسُ سَرْمَدَا ** وَلاَ تُلْحِقِي بِالخَلْقِ ضُرّاً تَعَمُّدَا

وَلاَ تَحْسِدِي حَيّاً وَلَوْ جَارَ واعْتَدَى ** عَلَيْكَ فَمَا يَحْيَى البُغَاةُ مُخَلَّدَا

تَدُوْرُ عَلَى البَاغِي الدَّوَائِرُ عنوةً ** وَيَحْيَى سَعِيْدَ ذُوْ الفَضِيْلَةِ أَمْجَدَا

وَكُلُّ حَسُودٍ يَنْخَرُ الحِقْدُ قَلْبَهُ ** يَذُوْبُ كَشَمْعٍ فِي سَعِيْرٍ تَوَقَّدَا

يَعِيْشُ وَنَارُ الغَيْضِ تُحْرِقُ كَبِدَهُ ** وَإِنْ مَاتَ أَضْحَى الجَمْرُ فِيه مُجَدَّدَا

فَجَازِ أَخَا فَضْلٍ وَرَاعِ ذِمَامَهُ ** وَسَامِحْ عَدُواً إِنْ قَلاَكَ وَنَدَّدَا

فَإِنّي رَأَيْتُ الفَضْلَ خَيْرَ ذَخِيْرَةٍ ** لِمَنْ رَامَ قَبْلَ المَوْتِ أَنْ يَتَزَوَّدَا

.موعظة:

إخواني إن الغَفْلَة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: {ولا تكونوا كالَّذِينَ نسوا الله فأنساهم أنفسهم} فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدُّنْيَا عن الْعَمَل للدار الآخرة أنساه الْعَمَل لمصالح نَفْسه فلا يسعي لها بما فِيه نفعها ولا يأخذ فِي أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها وينسي كَذَلِكَ أمراض نَفْسه وقَلْبه وآلامَه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي فِي إِزَالَة عللها وأمراضها التي تؤل إلي الهلاك والدمار وهَذَا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نَفْسهُ وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية فِي النَّعِيم الْمُقِيم ومن تأمل هَذَا الموضع تبين لَهُ أن كثيراً من الخلق قَدْ نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذَلِكَ عِنْدَ الموت ويتجلي ذَلِكَ كله يوم التغابن: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الآية.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإيمان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وأصلح أولاًدنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين فِي جنات النَّعِيم وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وأصحابه أجمعين.

.ذكر القلب وأبوابه ومداخل الشيطان إليه:

قال في منهاج القاصدين:
اعْلم أن الْقَلْب بأصل فطرته قابل للهدى، وبما وضع فِيه من الشهوة والهَوَى، مائل عن ذَلِكَ، والتطارد فِيه بين جند الملائكة والشياطين دائم، إلى أن ينفتح الْقَلْب لأحدهما فيتمكن ويستوطن، ويكون اختيار الثاني اختلاساً، كما قال تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وَهُوَ الَّذِي إِذَا ذكر الله خنس وإِذَا وقعت الغَفْلَة انبسط، ولا يطرد جند الشياطين من الْقَلْب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار لَهُ مَعَ الذكر.
واعْلم أن مثل الْقَلْب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عَلَيْهِ، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرفها ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه.. صفات الْعَبْد، وهي كثيرةإلا أَنَا نشير إلي الأبواب العظيمة الجارية مجري الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.
فمن أبوابه العظيمة: الحسد، والحرص. فمتي كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى شَيْء، أعماه حرصه، وأصمه، وغطي نور بصيرته التي يعرف بِهَا مداخل الشيطان. وكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حسوداً فيجد الشيطان حينئذٍ الفرصة، فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهوته، وإِذَا كَانَ منكراً أو فاحشاً، ومن أبوابه العظيمة.
الْغَضَب، والشهوة، والحدة فإن الْغَضَب غول العقل، وإِذَا ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقَدْ روي أن إبلَيْسَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْعَبْد حديداً، قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة.
ومن أبوابه: حب التزين فِي المنزل، والأثاث فلا يزال يدعو إلي عمارة الدار، وتزيين سقوفها وحيطانها، والتزين بالثياب، والأثاث، فيخسر الإنسان طول عمره فِي ذلك. ومن أبوابه: الشبع فإنه يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة. ومنها الطمَعَ فِي النَّاس، فإن من طمَعَ فِي شخص، بالغ بالثناء عَلَيْهِ بما لَيْسَ فِيه، وداهنه ولم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر. ومن أبوابه: العجلة، وترك التثَبِّتْ وقَدْ قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «العجلة من الشيطان، والتأني من الله تعالى». ومن أبوابه: حب الْمَال، ومتي تمكن من الْقَلْب أفسده وحمله عَلَى طلب الْمَال من غَيْر وجهه، وأخرجه إلي البخل وخوفه الفقر فمنع الحقوق اللازمة. ومن أبوابه: حمل العوام عَلَى التعصب فِي المذاهب، دون الْعَمَل بمقتضاها ومن أبوابه أيضاً حمل العوام عَلَى التفكر فِي ذات الله تعالى وصفاته، وفِي أمور لا تبلغها عقولهم حتي يشككهم فِي أصل الدين. ومن أبوابه: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ فإن من حكم عَلَى مسلم بسوء ظنه، احتقره وأطلق فِيه لِسَانه، ورأي نَفْسهُ خيراً منه. وإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان، لأن المُؤْمِن يطلب المعاذير للمؤمنين والمنافق يبحث عن عيوبهم.
وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقفهم التهم، لئلا يساء به الظن، فهَذَا طرف من مداخل الشيطان وعلاج هذه الأفات سد المداخل بتطهير الْقَلْب من الصفات المذمومة، وسيأتي الكلام عَلَى هذه الصفات إن شَاءَ الله تعالى مفصلاً.
وإِذَا قلعت عن الْقَلْب أصول هذه الصفات، بقي للشيطان بالْقَلْب خطرات واجتيازات من غَيْر استقرار فيمنعه من ذَلِكَ ذكر الله تعالى، وعمارة الْقَلْب بالتقوي. ومثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك، فإن لم يكن بين يديك لحم وخبز، فإنه ينزجر بأن تَقُول لَهُ: اخسأ، وإن كَانَ بين يديك شَيْء من ذَلِكَ وَهُوَ جائع، لم يندفع عنكَ بمجرد الكلام، فكَذَلِكَ الْقَلْب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنهُ بمجرد الذكر. فأما الْقَلْب الَّذِي غلب عَلَيْهِ الهَوَى فإنه يرفع الذكر إلي حواشيه فلا يتمكن الذكر من سويدائه، فيستقر الشيطان فِي السويداء. وإِذَا أردت مصداق ذَلِكَ، فتأمل فِي صلاتك، وانظر إلي الشيطان كيف يحدث قلبك فِي مثل ذَلِكَ الموطن، بذكر السوق، وحساب العالمين، وتدبير أمر الدُّنْيَا واعْلم أنه قَدْ عفِي عن حديث النفس ويدخل فِي ذَلِكَ ما هممت به، ومن ترك ذَلِكَ خوفاً من الله تعالى كتبت لَهُ حسنة، وإن تركه لعائق رجونا لَهُ المسامحة، إلا أن يكون عزماً، فإن العزم عَلَى الخطيئة خطيئة بدَلِيل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النار، قيل: ما بال المقتول؟ قال: إنه كَانَ حريصاً عَلَى قتل صاحبه».
وكيف لا تقع المؤاخذة بالعزم، والأعمال بالنِّيْة، وهل الكبر والرياء إلا أمور باطنة؟ ولَوْ أن إنسانَاً رأي عَلَى فراشه أجنبية ظنها زوجته لم يأثم بوطئها، ولَوْ رأي زوجته وظنها أجنبية أثم بوطئها، وكل هذ معلق بعقَدْ القلب.
وقَدْ ورد فِي الْحَدِيث أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا عَلَى دينك، يا مصرف القُلُوب اصرف قلوبنا إلي طاعتك». وفِي حديث آخر: «مثل الْقَلْب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبِهَا الرياح» واعْلم أن القُلُوب فِي الثبات عَلَى الْخَيْر والشر والتردد بينهما ثلاثة: الأول قلب عمر بالتقوي، وزكي بالرياضة، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتنفرج فِيه خواطر الْخَيْر من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهُدَى.
الْقَلْب الثاني: قلب مخذول، مشحون بالهَوَى، ودنيس بالخبائث ملوث بالأخلاق الذميمة فيقوي فِيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، فيضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ الْقَلْب بدخان الهَوَى، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان لا يمكنها النظر؛ ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ.
والْقَلْب الثالث: قلب يبتدئ فِيه خاطر الهَوَى، فيدعوه إلي الشر، فيلحقه خاطر الإيمان، فيدعوه إلي الخير. مثاله، أن يحمل الشيطان حملة عَلَى العقل، ويقوي داعي الهَوَى، وَيَقُولُ: أما تري فلانَاً وفلانَاً كيف يطلقون أنفسهم فِي هواها حتي يعد جماعة من العلماء، فتميل النفس إلي الشيطان، فيحمل الملك حملة عَلَى الشيطان، وَيَقُولُ: هل هلك إلا من نسي العاقبة، فلا تغتر بغَفْلَة النَّاس عن أنفسهم، أرَأَيْت لَوْ وقفوا فِي الصيف فِي الشمس ولك بيت بارد، أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟ أفتخالفهم فِي حر الشمس، ولا تخالفهم فيما يؤول إلي النار فتميل النفس إلي قول الملك، ويقع التردد بين الجندين، إلي أن يغلب عَلَى الْقَلْب ما هُوَ أولي به، فمن خلق للخَيْر يسر لَهُ ومن خلق للشر يسر لَهُ قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} اللَّهُمَّ وفقنا لما تحبه وترضاه.
إِلى كم إِذَا مَا غِبْتُ تُرْجَى سَلاَمتي ** وقَدْ قَعَدْتْ بِي الحَادِثَاتُ وَقَامَتِ

وَعُمّمْتُ مِنْ نَسْجِ القَتِيْرِ عِمَامَةً ** رُقُومُ البِلَى مَرْقُومَةٌ بِعِمَامَتِي

وَكُنْتَ أَرَى لِي فِي الشَّبَابِ عَلاَمَةً ** فَصِرْتُ وَإِنّي مُنْكِرٌ لِعَلاَمَتَي

ومَا هِيَ إلا أَوْبَةٌ بَعْدَ غَيْبَةٍ ** إِلى الغَيْبَةِ القُصْوَى فَثَمَّ قِيَامَتِي

كَأَنِيْ بِنَفْسِي حَسْرَةً وَنَدَامَةً ** تُقَطَّعُ إِذْ لم تُغْنِ عني نَدَامَتِي

مُنَى النَّفْسِ مِمَّا يُوْطِيءُ المَرْءَ عَشْوَةً ** إِذَا النَّفْسُ جَالَتْ حَوْلَهُنَّ وَحَامَتِ

وَمَنْ أَوْطَأَتْهُ نَفْسُهُ حَاجَةً فَقَدْ ** أَسَاءَتْ إِليْهِ نَفْسُهُ وَألامَتِ

أَمَا والَّذِي نَفْسِيْ لَهُ لَوْ صَدَقْتُهَا ** لَرَدَّدْتُ تَوْبِيْخِي لَهَا وَمَلاَمَتِي

فَلِلَّهِ نَفْسٌ أَوْطَأَتْنِي مِنَ العَشَا ** حُزُوْناً وَلَوْ قَوَّمْتُهَا لاَسْتَقَامَتِ

وللهِ يَوْمُ أَيَّ يَومٍ فَظَاعَةً ** وَأَفْظَعُ مِنْهُ بَعْدَ يَوْمُ قِيَامَتِي

وللهِ أَهْلِي إِذْ حَبَوْنِيْ بِحُفْرَةٍ ** وَهُمْ بِهَوانِي يَطْلُبُونَ كَرَامَتِي

وللهِ دُنْيَا لاَ تَزَالُ تَرَدُّنِي ** إِبَاطِيْلُهَا فِي الجَهْلِ بَعْدَ اسْتِقَامَتِي

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ..
فصل:
تكلم أحد العلماء في بيان مداخل الشيطان إلى القلوب:
فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ اعْلم أن الْقَلْب مثاله مثال حصن رفيع والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه.
ولا يقدر عَلَى حفظ الحصن إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواقع ثلمه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه.
وحماية الْقَلْب عن فساد الشيطان فرض عين واجب عَلَى كُلّ عبد مكلف، وما لا يتوصل إلي الواجب إلا به فهو واجب.
ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصَارَت معرفة مداخل الشيطان واجبة.
ومداخل الشيطان وأبوابه صفات الْعَبْد نحو الشهوة والْغَضَب والحدة والطمَعَ وغيرها وهي كثيرة، ولكنا نشير إلي معظم وسائله فِي إغواء الخلق وتسلطه عَلَيْهمْ بِهَا إن شَاءَ الله.
وجملتها وسائل عشرة نذكرها ونذكر كيفية علاجها والتخلص منها، فهذان تقريران.
التقرير الأول: فِي ذكرنا الوسيلة الأولي الحسد والحرص، فمن حصل عَلَى هاتين الخصلتين عمي وصم، وهما من أعظم مداخل الشيطان وأكبر وسائله.
وقَدْ روي أن نوحاً عَلَيْهِ السَّلام لما ركب البحر وحل فِي السَّفِينَة من كُلّ زوجين اثنين كما أمر فرأي فِي السَّفِينَة شيخاً لم يعرفه.
فَقَالَ لَهُ نوح: من أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قُلُوب أصحابك فتَكُون قُلُوبهمْ معي وأبدأنهُمْ معك.
فَقَالَ نوح: أخرج يا عدو الله فإنك رجيم، فَقَالَ إبلَيْسُ: خمس أهلك بهن النَّاس وسأحدثك مِنْهُمْ بثلاث، ولا أحدثك باثنين.
فأوحي إلي نوح إنه لا حَاجَة لك إلي الثلاث، مره يحدثك بالاثنين.
فَقَالَ: ما الاثنتان؟ فَقَالَ: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك النَّاس الحرص والحسد.
فبالحسد لعنت وجعلت شيطانَاً رجيماً، والحرص أصبت حاجتي من آدم، أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة التي عرف بِهَا فوسوست لَهُ حتي أكلها.
الوسيلة الثَّانِيَة: الشهوة والْغَضَب فإنهما من أعظم المكايد للشيطان، فمهما غضب الإنسان لعب لَهُ الشيطان، وعن بعض الأنبياء أنه قال لإبلَيْسَ: بأي شَيْء تغلب ابن آدم؟ قال: آخذه عِنْدَ الْغَضَب وعِنْدَ الهوي.
وظهر إبلَيْسُ لراهب، فَقَالَ: أي أَخْلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فَقَالَ: الحدة، إن الْعَبْد إِذَا كَانَ حديداً قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة.
وقيل لإبلَيْسَ: كيف تقلب ابن آدم؟ فَقَالَ: إِذَا رضي جئت حتي أكون فِي قَلْبهِ، وإِذَا غضب جئت حتي أكون عَلَى رأسه.
الوسيلة الثالثة: حب الشهوات والزينة فِي الدُّنْيَا فِي الثياب والأثاث والدور والمراكب، فإن الشيطان إِذَا رأي ذَلِكَ غالباً عَلَى قلب إنسان باض فِيه وفرخ.
فلا يزال يدعوه إلي عمارة الدُّنْيَا وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع الأبنية، ويدعوه إلي التزين بالأثواب النفيسة ويستسخره طول عمره.
فإِذَا أوقعه فيها فقَدْ استغني عن معاودته فإن بعض ذَلِكَ يجر إلي بعض، فلا يزال يؤديه من شَيْء إلي شَيْء إلي أن يستاق إليه أجله فيموت وَهُوَ فِي بحر الأماني يعوم، وفِي سبيل الضلال يخوض، ومن ذَلِكَ يخشي سوء الخاتمة نعوذ بِاللهِ منها.
الوسيلة الرابعة: الطمَع، فإِذَا كَانَ الطمَع غالباً عَلَى الْقَلْب لم يزل الشيطان يحسن لَهُ التصنع لمن طمَعَ فِيه حتي يصير المطموع فِيه كأنه معبوده.
وقَدْ قال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «إياكم واستشعار الطمَع فإنه يشرب الْقَلْب شدة الحرص ويختم عَلَى القُلُوب بطابع حب الدُّنْيَا، وَهُوَ مفتاح كُلّ سيئة، وسبب إحباط كُلّ حسنة».
هَذَا هُوَ الغاية فِي الْخُسْرَانُ والهلاك.
الوسيلة الخامسة: العجلة فِي الأمور وكثرة الطيش والفشل، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأناة من الله والعجلة من الشيطان».
وروي أنه لما ولد عيسي عَلَيْهِ السَّلام أتت الشياطين إبلَيْسَ فَقَالُوا: أصبحت الأصنام قَدْ نكست رؤوسها فَقَالَ: هَذَا حادث قَدْ حدث مكانكم فطار حتي جَاءَ خافقي الأرض.
فلم يجد شيئاً فوَجَدَ عيسي عَلَيْهِ السَّلام قَدْ ولد وإِذَا الملائكة قَدْ حفت حوله.
فَقَالَ لهُمْ إن نبياً قَدْ ولد البارحة، ما حملت أنثي قط ولا وضعت إلا وأنَا بحضرتها إلا هَذَا فاستيأسوا من عبادة الأصنام بعد هذه اللَّيْلَة ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولي ونعم النصير وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
الوسيلة السادسة: الفتنة بالدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال والعروض والدواب والعقارات وكل ما يكون فضله عَلَى قدر الحاجة والقوت فهو مستقر الشيطان.
وروي أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لما بعث، قال إبلَيْس لشياطينه: لَقَدْ حدث أمر فانظروا ما هُوَ، فانطلقوا ثُمَّ جاءوا وقَالُوا: ما ندري قال إبلَيْس: أَنَا آتيكم بالخبر.
فذهب وجَاءَ، قال: قَدْ بعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قال: فجعل يرسل شياطينه إلي أصحاب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فينصرفون خائبين، فيقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء، نصيب مِنْهُمْ ثُمَّ يقومون للصلاة فيمحون ذلك.
فَقَالَ إبلَيْس: رويداً بِهُمْ عسي الله أن يفتح لهُمْ الدُّنْيَا فهناك تصيبون حاجتكم منهم.
الوسيلة السابعة: البخل وخوف الفقر فإن البخل هُوَ أصل لكل خطيئة، وروي عن إبلَيْسَ لعنه الله أنه قال: ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني فِي ثلاث، آمره أن يأخذ الْمَال من غَيْر حقه وينفقه فِي غَيْر حقه ويمنعه من مستحقه.
وَقَالَ سفيان الثوري: لَيْسَ للشيطان سلاح عَلَى الإنسان مثل خوف الفقر، فإِذَا قبل ذَلِكَ منه أخذ فِي الْبَاطِل ومنع من الحق وتكلم بالهَوَى وظن بربه السُّوء، وَهُوَ من أعظم الآفات عَلَى الدين.
الوسيلة الثامنة: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ وقَدْ قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
ومن حكم بشَيْء عَلَى غيره بالظن فإن الشيطان يبعثه عَلَى أن يطول فِيه اللسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر فِي القيام بحقوقه أو يتواني فِي إكرامه أو ينظره بعين الاحتقار أو يري نَفْسهُ خيراً منه.
وكل ذَلِكَ من المهلكات، فمهما رَأَيْت إنسانَاً يسيء الظن بِالنَّاسِ طالباً لعيوبهم فاعْلم أنه خبيث فِي الباطن، فإن المُؤْمِن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب للخلق.
الوسيلة التاسعة: الشبع من الطعام والتأنق فِي المآكل الفاخرة، فإن الشبع يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان التي بِهَا يصول.
وروي أن إبلَيْسَ ظهر يوماً ليحيي بن زكريا عَلَيْهِ السَّلام فرأي عَلَيْهِ معاليق من كُلّ شَيْء، فَقَالَ لَهُ يحيي عَلَيْهِ السَّلام: ما هذه المعاليق.
فَقَالَ: هذه هِيَ الشهوات التي أصيب بِهَا بني آدم، فَقَالَ: هل لي منها شَيْء؟ فَقَالَ: ربما شبعت فتثاقلت عن الصَّلاة وعن الذكر.
فَقَالَ: هل غَيْرَ ذلك؟ قال: لا، فَقَالَ يحيي: لله عَلَىَّ أن لا أملأ بطني، فَقَالَ إبلَيْس: عَلَى لله لا أنصح مسلماً.
الوسيلة العاشرة: تعاطي العوام الَّذِينَ لم يمارسوا العلوم ولم يتبحروا فيها بالتفكير فِي ذات الله عَزَّ وَجَلَّ وصفاته وفِي الأمور التي لا تبلغها عقولهم حتي يؤدي ذَلِكَ إلي الاعتقادات الكفرية وهم لا يشعرون.
وهم فِي غاية ما يكونون من الفرح والسرور والاطمئنان إلي ما وقع فِي صدورهم.
وهم فِي غاية الخطأ ويظنون أن ما اعتقدوه هُوَ العلم والبصيرة، فما هَذَا حاله يكون من أعظم الأبواب للشيطان فِي اللعب بعقولهم وإيقاعهم فِي الأمور المكروهة.
فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلي الْقَلْب وهي كثيرة، وفيما ذكرناه تنبيه عَلَى ما ورائها.
وبالجملة فلَيْسَ فِي الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان ومدخل من مداخله.
التقرير الثاني: فِي بيان العلاج فِي دفعها وإزالتها، اعْلم أن علاج هذه الأمور وإزالتها إنما يكون بالدُّعَاء إلي الله والالتجَاءَ إليه فِي دفعها وإزالتها، وبالاجتهاد فِي قلع هذه الصفات المذمومة عن الْقَلْب، والعناية فِي ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، فهذه دوافع ثلاثة نذكرها.
الدافع الأول: يكون باللجَاء إلي الله بالدُّعَاء راجياً منه تحصيل الألطاف الخفية فِي إبعاد الشياطين وإزالتهم، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كَانَ الشيطان يأتي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وبيده شعلة نار فيقوم بين يديه وَهُوَ يصلي فيقَرَأَ ويتعوذ فلا يذهب.
فأتي جبريل عَلَيْهِ السَّلام إلي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: قل أعوذ بكلمَاتِ الله التامَاتِ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج فِي الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
ومن شر فتن الليل والنَّهَار وطوارق الليل والنَّهَار إلا طارقاً يطرق بخَيْر يا رحمن، فطفيت شعلته وخر وجهه.
وعن الحسن البصري أنه قال: نبئت أن جبريل أتي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإِذَا أويت إلي فراشك فاقَرَأَ آية الكرسي.
وعن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنه قال: أتاني شيطان فنازعني ثُمَّ نازعَني فأخذت بحلقه والَّذِي بعثني بالحق ما أرسلته حتي وجدت برد لِسَانه عَلَى يدي، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح طريحاً حتي تنظروا إليه.
الدافع الثاني: العناية فِي إِزَالَة هذه الصفات المذمومة من القُلُوب وقلعها منها فإن الشيطان مثل الكلب فِي التسلط عَلَى الإنسان.
فإِذَا كَانَ الإنسان متصفا بهذه الصفات الذميمة من الْغَضَب والحسد والحرص والطمَع وغيرها كَانَ بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم فإن الكلب لا محالة يتهور عَلَيْهِ ويتوثب ولا يندفع غالباً إلا بمشقة شديدة، وإن لم يكن متصفاً بِهَا لم يطمَع فِيه لأنه لا داعي لَهُ هنالك ويكون دفعه بأسهل ما يكون وأيسره فإنه يندفع بالنهر والخسا والزجر، فتزال بنقائضها.
فيزال الْغَضَب بالرضاء والسكينة، ويزال الكبر بالتواضع، ويزال الحسد بمعرفة حق المحسود وأن الَّذِي اختص به فضل من الله فلا يمكن دفعه.
ويزال الطمَع بالورع والاكتفاء بما أعطاه الله عَزَّ وَجَلَّ، ويزال الحرص بتحقيق حال الدُّنْيَا وانقطاعها بالموت.
وهكَذَا تفعل فِي كُل خصلة مذمومة بالاجتهاد فِي إزالتها.
الدافع الثالث: ذكر الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
والمعني أنَّهُمْ إِذَا ألمَّ بقُلُوبهمْ شيء من هذه الصفات الذميمة فزعوا إلي ذكر الله تعالى وتذكروه، فعِنْدَ ذَلِكَ يحصل التبصر لهُمْ فِي عواقب أمورهم.
نعم الذكر لا يكون طارداً للشيطان إلا إِذَا كانت القُلُوب معمورة بالخوف والتقوي.
فأما إِذَا كانت خالية عن ذَلِكَ فربما يكون الذكر غَيْرَ مُجْدٍ، ومثال هَذَا من يطمَعَ فِي شرب الدواء قبل الاحتمي والمعدة مشحونة بغليظ الطعام ويطمَع فِي أنه ينفعه كما ينفع الَّذِي يشربه بعد الاحتمي وتخلية المعدة عَن الأطعمة.
فالذكر هُوَ الدواء والتقوي هُوَ الاحتمي، فإِذَا حصل الذكر فِي قلب فارغ عن غَيْر الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء فِي معدة خالية عَن الأطعمة كما أشار إليه تعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
اللَّهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقيةً، وعيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومرداً غَيْر مخزٍ ولا فاضحٍ.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إنك عَلَى كُل شيء قدير.
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التي قدرت بِهَا عَلَى جَمِيع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شيء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان فتبسم وَقَالَ لَوْ نام لاسترحنا.
فإِذَاً لا خلاص للمُؤْمِن منه نعم سبيل إلي دفعه وتضعيف قوته قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن المُؤْمِن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره فِي سفره».
وَقَالَ ابن مسعود: شيطان المُؤْمِن مهزول. وَقَالَ قيس بن الحجاج قال لي شيطاني دخلت فيك وأنَا مثل الجزور وأنَا الآن مثل العصفور قُلْتُ ولم ذاك قال تذيبني بذكر الله تعالى.
وعن أبي بكر رَضِيَ اللهُ عنهُ قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا مِنْهُمَا فإن إبلَيْسَ قال أهلكت بني آدم بالذُّنُوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنَّهُمْ مهتدون رواه الحافظ أبو يعَلَى الموصلي وَقَالَ مجاهد ما من شيء أكسر لظهر إبلَيْسَ من لا إله إلا الله.
وَقَالَ عباس الدوري سمعت يحيي بن معين يَقُولُ كنت إِذَا دخلت منزلي قرأت آية الكرسي مرة.
فبينما أَنَا ذات ليلة أقرؤها فإِذَا هاتف يَقُولُ كم تقَرَأَ هذه لَيْسَ أحد يحسن يقرؤها غيرك.
فقُلْتُ مجيباً لَهُ وأري هَذَا يسؤك وَاللهِ لأزيدنك فصرت أقرؤها فِي اللَّيْلَة خمسين مرة أو ستين مرة قال عباس فحدثت مُحَمَّد بن سهل فَقَالَ كَانَ جرياً عَلَى الإنس والجن أو كما قال.
وَقَالَ بشر بن منصور عن وهيب بن الورد خرج رجل إلي الجبانة بعد ساعة من الليل فسمَعَ حساً وأصواتاً شديدةً وجئ بسرير وجَاءَ شيء جلس عَلَيْهِ واجتمَعَ إليه جنود.
ثُمَّ صرخ من لي بعروة بن الزبير فلم يجبه أحد حتي تابع ما شَاءَ الله من الأصوات فَقَالَ واحد مِنْهُمْ أَنَا أكفيكه.
قال: فتوجه نحو الْمَدِينَة وأنَا أنظر ثُمَّ أوشك الرجعة فَقَالَ لا سبيل إلي عروة قال ويلك لم يَقُولُ كلمَات إِذَا أصبح وإِذَا أمسي فلا يخلص إليه.
قال الرجل فَلَمَّا أصبحت قُلْتُ لأهلي جهزوني فأتيت الْمَدِينَة فسألت عنهُ حتي دللت عَلَيْهِ فإِذَا شيخ فقُلْتُ شيئاً تقوله إِذَا أصبحت وإِذَا أمسيت.
فأبي أن يخبرني فأخبرته بما رَأَيْت وبما سمعت فَقَالَ ما هُوَ غَيْر أني أَقُول إِذَا أصبحت.
آمنت بِاللهِ العَظِيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم.
إِذَا أصبحت قُلْتُ ثلاث مرات وإِذَا أمسيت قُلْتُ ثلاث مرات.
وعن ابن عباس أنه قال إن الشياطين قَالُوا لإبلَيْسَ يا سيدنا إنا لنفرح بموت العَالم ما لا نفرح بموت العابد والعَالم لا نصيب منه.
قال انطلقوا فانطلقوا إلي عابد وأتوه فِي عبادته فَقَالُوا نريد أن نسألك فَقَالَ سل.
فَقَالَ إبلَيْسُ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال لا أدري قال أترونه كفر فِي سماعه.
ثُمَّ جَاءَ إلي رجل عَالم فِي حلقة يضاحك أصحابه فَقَالُوا إنا نريد أن نسألك فَقَالَ سل.
فَقَالَ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال نعم قال كيف.
قال يَقُولُ كن فيكون، قال أترون ذَلِكَ لا يعدو نَفْسهُ هَذَا يفسد عَلَىَّ عالَمَاً كثيراً.
حَيَاتُكَ فِي الدُّنْيَا قَلِيْلُ بَقاؤُهَا ** وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيْدُ عناؤُهَا

وَلاَ خَيْرَ فِيه غَيْرَ زَادٍ مِنَ التَّقَي ** يُنَالُ بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا

بَلَى إِنّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مَطِيّةً ** عَلَيْهَا بُلُوغُ الْخَيْرِ وَالشَرُّ دَاؤُهَا

وَمَنْ يَزْرَعِ التَقْوى بِهَا سَوْفَ يَجْتَنِي ** ثِمَاراً مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا

نُؤَمّلُ أَنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أَنَّنَا ** عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ الْمَمَاتَ انْتِهَاؤُهَا

فَكُنْ أَيُهَا الإنسان فِي الْخَيْرِ رَاغِباً ** يَلُوحُ مِنَ الطَّاعَاتِ فِيكَ بَهَاؤُهَا

وَجَانِبْ سَبِيْلَ الغَيِّ وَاتْرُكْ مَعَاصِياً ** يُذِيبُكَ مِنْ نَّارِ الجَحِيْمِ لَظَاؤُهَا

فَلاَبُدَّ يَوْماً أَنْ تَمُوْتَ بِمَشْهَدٍ ** يُسَاعِدُ مَنْ نَاحَتْ عَلَيْكَ بُكَاؤُهَا

وَتَنْزِل قَبْراً – لاَ أَبَالَكَ – مُوْحِشاً ** تَكُونُ ثَرَى أَمْ عَلَيْكَ ثَرَاؤُهَا

وَتَبْقَى بِهِ ثَاوٍ إِلى الحَشْرِ وَالجَزَا ** وَنَفْسُكَ يَبْدُو فِي الحِسَابِ جَزَاؤُهَا

فَإِمَّا تَكُونُ النَّفْسُ ثَمَّ سَعِيدَةً ** فَطُوْبَى وَإلا فَالضَّرِيْعُ غِذاؤُهَا

يُسَاقُ جَمِيْعُ النَّاسِ فِي مَوْقِفِ القَضَا ** وَتُنْشَرُ أَعْمَالٌ يَبِيْنُ وَبَاؤُهَا

هُنَالِكَ تَبْدُو لِلْعِبَادِ صَحَائِفٌ ** فَتُوضَعُ فِي المِيْزَانِ وَالذَنْبُ دَاؤُهَا

وَكم مِنْ ذَلِيْلٍ آخِذٍ بِشِمَالِهِ ** صَحِيفَتَهُ السَّوْدَا الشَّدِيدُ بَلاَؤُهَا

وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ آخِذٌ ** صَحِيفَتَهُ البَيْضَاءَ طَابَ لِقَاؤُهَا

فَيَأْتِي نَبِيُّ اللهِ لِلرَّبِ سَاجِداً ** فَيُثْنِي بِنَعْمَاءِ يَجْلُّ ثَنَاؤُهَا

فَيْدْعُوْهُ رَبُّ العَرْشِ: سَلْنِي فَإِنَّنِي ** لِنَفْسِكَ بِالمَحْبُوْبِ عِنْدِي رِضَاؤُهَا

فَقَالَ: إِلَهِي أُمَّتِي مِنْكَ تَرْتَجْيِ ** لأَشْفَعَ بَعْدَ الإذْنِ فَهْوَ مُنَاؤُهَا

فَيُعْطِيهِ مَوْلاَهُ الكَرِيْمُ شَفَاعَةً ** لأُمَّتِهِ الغَرَّاءِ طَابَ هَنَاؤُهَا

فَيَرْجِعُ طَهَ مُسْتَقِيْمٌ سُرُورُهُ ** تَخَالُ بِهِ البُشْرَى جَلِياً ضِيَاؤُهَا

فَيَحْمَدُ مَوْلاَهُ الجَلِيْلَ ثَنَاؤُهُ ** عَلَى نِعَمٍ لاَ يُسْتَطَاعُ انْحِصَاؤُهَا

هُنَالِكَ أَمِّ المُصْطَفَى جَنَّةَ العَلاَ ** وَأُمَّتُهُ تَقْفُوْا كَذَا شُهَدَاؤُهَا

وَيَسْقِي رَسُولُ اللهِ مَنْ شَاءَ كَوْثَراً ** بَآنِيَةٍ عَدَّ النَّجُومِ اقْتِفَاؤُهَا

فَيَارِبُّ أَوْرِدْنَا جَمِيْعاً لِحَوْضِهِ ** لِتُرْوَى نُفُوْسٌ مِنْهُ طَالَ ظَمَاؤُهَا

وَأتْمِمْ لَنَا حُسْنَ الخِتَامِ إِذَا دَنَتْ ** وَفَاةٌ وَحَانَتْ لِلْحَيَاةِ انْمِحَاؤُهَا

وَهَوِّنْ عَلَى الرُّوْحِ الْمَمَاتَ فَإِنَّهَا ** تُحِبُّ البَقَا لَكِنْ لِقَاكَ هَواؤُهَا

وفِي القَبْرِ ثَبْتْهَا عَلَى قُوْلِكَ الهُدَى ** إِذَا سُئٍلَتْ كَيْ يَسْتَقِيْمَ بَقَاؤُهَا

وَإِنْ نُفِخَتْ فِي الصُّوْرِ نَفْخَةُ بَعْثِنَا ** فَقُلْ أَنْتُمُ أَهْلُ اليَمْيِنِ أولاَؤُهَا

فنَحْنُ اعْتَمَدنَا الفَضْلَ مِنْكَ مَعَ الرَّجَا ** فَحَقَّقْ رَجَا نَفْسٍ لَدَيْكَ رَجَاؤُهَا

وَصَلِّ عَلَى المُخْتَارِ طَهَ مُحَمَّدٍ ** شَفِيعِ البَرَايَا يَوْمَ يَأْتِي نِدَاؤُهَا

وَآلِ وَأَصْحَابِ مَدَى الدَّهْرِ مَا بَدَا ** نَهَارٌ وَمَا جَنَّ اللَّيَالِي دُجَاؤُهَا

انتهى.
اللَّهُمَّ إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتري مكاننا لا يخفِي عَلَيْكَ شيء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمَع أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.